التخلي عن ظالم معروفة هويته قد لا يكون براءة ذمة بقدر ما قد يكون تصحيح موقف لا يرتقي إلى مستوى الفضيلة. وخلال محاكمات النظام العراقي السابق، قال المدعي العام إن كل من ساهم بأي شكل في عمليات الأنفال ضد الكرد يعد شريكا، فسأله أحد المتهمين: وهل يشمل هذا من قدم الشاي يا سيادة القاضي؟ فرد عليه: نعم!
ترى، هل تنطبق جريمة {الدواعش} بتهجير وقتل المسيحيين والتركمان والشبك في محافظة نينوى على من والاهم وتحالف معهم وغطى عليهم بادعاء وجود ثوار العشائر والبعثيين.. إلخ؟ وهل يكفي السكوت والتملص لتبرئة النفس، خصوصا بالنسبة للبعثيين الذين تأسس حزبهم على يد شخص مسيحي؟ أم أن بعضهم أصبحوا شركاء في جرائم ضد الإنسانية تجاه شريحة تمثل سكان العراق الأصليين قبل موجات التوسع العربية؟ ومقابل هذه الجريمة البشعة، بقي العرب السنة محافظين على حقوق المواطنة كاملة في جنوب العراق الشيعي الأغلبية.
الحقيقة التي لم يتطرق إليها أحد بإنصاف، هي أن تنظيم القاعدة هو من أفسد حلاوة إسقاط النظام السابق، وعرقل عملية التغيير الديمقراطي، التي تبقى ممارسة معقولة رغم كل ما قيل عن مثالبها. وقد اصطف جهلاء ومغرضون إلى جانب «القاعدة» بحجة المقاومة، دون إدراك لخطورة المشاريع الموجهة من خارج العراق. ومع أن التهميش السياسي كان موجودا إلى حد ما، إلا أن معظمه جاء بسبب موجات الإرهاب الدموي ونتيجة استخدام ألفاظ جارحة، وفي ظل تجاهل أن هؤلاء يشكلون نصف سكان العراق، وكلهم من أصول عربية لا غبار عليها.
وكانت مسألة التشديد الأمني مثار جدل عميق، ومعظم الخطوات تشمل تدابير ضرورية لحماية مواقع مهمة تتطلب إقامة حواجز، وهذا ينطبق على بغداد بغالبيتها الشيعية وعلى الموصل بغالبيتها السنية، لأن الإرهاب يضرب في كل مكان، إلا أن رواتب الموظفين والمتقاعدين مثلا كانت - ولا تزال - متساوية ولا وجود لأي فروقات، والموازنات الاستثمارية للمحافظات عادلة وأقرها البرلمان برئاسته العربية السنية، والمحافظون منتخبون من أبناء مدنهم، وحظيت محافظة الأنبار السنية بعدة مواقع وزارية وسيادية مهمة، بينما حرمت البصرة خزان الثروة النفطية من موقع وزاري واحد، وكذلك بغداد بكل تاريخها وثقلها وكثافتها البشرية!
وإلى جانب هذه الرؤية المستندة إلى حقائق ثابتة، حصل تصريف خاطئ لاجتثاث «البعث» ضمن إعادة ضباط كبار من الشيعة البعثيين مقابل عدد قليل من السنة، إلا أن وضعا كهذا يفترض تفهمه على هامش الهجمات الإرهابية وممارسات نظام صدام حسين تجاه الشيعة، خصوصا ما يتعلق بالتصدي لانتفاضة ما بعد حرب تحرير الكويت، وقلقهم من احتمالات عودة البعثيين إلى الحكم، وكان لا بد من تفهم هذه الهواجس في ضوء المعطيات السابقة والمتغيرات في العراق والمنطقة، إلا أن شدة الإرهاب، ومصطلحات بعض رجال الدين التحريضية، والمؤامرات الداخلية والخارجية لم تترك فرصة لتحكيم العقل.
ومنذ بداية أحداث الموصل، حرصت على تسليط الضوء على الموقف الخطير، دون التأثر بالمعطيات الطائفية سلاح المتخلفين والسذج، بكل ألوانها، مؤكدا أن ما قيل عن أن {الدواعش} لا يمثلون إلا نسبة قليلة من الجماعات المسلحة يقدم خدمة مثالية لهم على طريق تكريس نفوذهم وعرقلة ردود الفعل، وهو ما ثبت لاحقا في كل المجالات، وها هي الجماعات الأخرى تتبنى موقفا لا تحسد عليه في سكوتها عن جرائم الدواعش تجاه أقليات الموصل من مسيحيين وشيعة، ولم تطلق كلمة إدانة واحدة، فأصبح قادتها المجهولون شركاء فيما وقع، ولم تعد التبريرات تنفع تحت أي ظرف.
تغيير الحكومة ممكن بالوسائل السياسية، خصوصا بعد تصاعد الخلافات بين الكتل الشيعية، وليس معقولا أن يكون تدمير العراق وسيلة للتغيير الحكومي، وفي كل الأحوال، فإن الوقوف إلى جانب وحدة العراق أصبح خيارا لا يوازيه خيار آخر أمام التهديدات المدمرة. وبعيدا عن العواطف والرؤى الشخصية، فبما أن العراق يمتلك ثروات ضخمة، وطاقة بشرية كبيرة، وفرص توريد سلاح، وبما أن العراقيين قد أدركوا خطورة {الدواعش} على وجودهم - فإن من المؤكد استمرار انقلاب المعادلات لصالح الدولة. أما مسألة هوية الحاكم، فلم تعد تستحق الاهتمام كثيرا، فمن الضروري أن تكون الحكومة المقبلة «وحدوية» وقوية وعادلة، وعندئذ سنتساءل عما إذا بقي لـ{الدواعش} حلفاء.
مقالات اخرى للكاتب